- لورا توماس
- بي بي سي العالمية
كان ميلتون واشنطن، المنبوذ منذ مولده كونه ابنا لامرأة كورية وجندي أمريكي أسود، في طفولته لصا صغيرا يحلم بالوصول إلى أمريكا، وقد اغتنم الفرصة وهو في سن الثامنة من عمره.
فعندما توقفت سيارة جميلة ذات يوم خارج دار أيتام سانت فنسنت في كوريا الجنوبية، اتخذ ميلتون واشنطن قرارا في جزء من الثانية من شأنه أن يغير مجرى حياته.
خرج من السيارة زوجان أمريكيان من السود، وكان الرجل يرتدي زيا عسكريا، والمرأة ذات الشعر الإفريقي ترتدي فستانا انسيابيا جميلا، وعندما أدرك ميلتون أنهما سيتبنيان صديقه جوزيف، الذي كان أسود وكوريا مثله تماما، ركض إلى سيارة الزوجين وقفز داخلها وأغلق جميع الأبواب.
كان يبكي ويصرخ بأنه لن يخرج من السيارة إلا إذا اصطحبه الرجل والمرأة إلى المنزل أيضا.
وافق الزوجان على أخذ كل من جوزيف وميلتون إلى المنزل، ولكن فقط لمعرفة أيهما يتناسب بشكل أفضل مع أسرتهما، وقالا إنهما سيمنحانهما بضعة أيام ثم يتخذان قرارهما.
في تلك الليلة، عندما كان مستلقيا على سريره في غرفة نوم غير مألوفة في منزل غير مألوف في قاعدة دونغدوشيون العسكرية الأمريكية، اتخذ ميلتون الصغير ثاني أكبر قراراته في ذلك اليوم، وهرب.
يقول: “لم أرغب في إعادتي إلى دار الأيتام، ربما لن يختاراني، لقد كنت أحاول فقط الوصول إلى أمريكا”.
قبل حياته في دار الأيتام، كان ميلتون هو الطفل الأسود الوحيد في قرية صغيرة بالقرب من الحدود مع كوريا الشمالية، فقد رحل والد ميلتون، وهو جندي أمريكي، منذ فترة طويلة لكن والدته، التي عملت أياما شاقة في حقول الأرز، أحبته وحمته بشدة من الإجحاف الذي واجهاه.
ويتذكر ميلتون أن الأطفال في القرية كانوا يستهدفونه بسبب لون بشرته ويسخرون منه بأغنية عن “مؤخرة القرد الأسود”. ويقول إنه باعتباره ابنا لرجل أسود فقد كان “خارج حدود” ما يعنيه أن تكون كوريا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ولأن والده لم يكن كوريا لم يكن لديه الحق في الحصول على شهادة ميلاد.
لقد عرف ميلتون أن والده من الولايات المتحدة التي كانت في ذهنه أرض السيارات الطائرة حيث المدن مصنوعة من الذهب مع جبال الآيس كريم.
ويقول ميلتون: “حلمت بالذهاب إلى أمريكا لأنها كانت مليئة بالسود، تلك المخلوقات السحرية ، وأن يتم قبولي هناك”.
كانت أمريكا ميلتون أرضا خيالية لا يمكن أن تكون مختلفة عن واقعه، لقد كان يعيش هو وأمه في كوخ من الطين والحجر حيث ينامان على الأرض ويغسلان ملابسهما في النهر.
وذات صباح، وصل شيوخ القرية إلى الباب وأخبروا والدة ميلتون أنهم لن يقبلوا بعد الآن “العار الذي تجلبه على هذه القرية بسبب ذلك الصبي”.
وعلى الرغم من أن والدة ميلتون جادلت في قضيتهما، فقد غادرت هي وميلتون منزلهما وانتقلا إلى بلدة قريبة ملحقة بقاعدة عسكرية أمريكية. وكانت هناك سيارات وكهرباء وأموال، وكلها كانت جديدة على ميلتون حيث كان الملح هو العملة في قريتهم.
ورأى ميلتون أيضا جنودا أمريكيين سودا لأول مرة، وشعر أنه اقترب خطوة من العثور على والده.
وفي أزقة حي البغاء أسفل شقتهما الصغيرة يمارس الأولاد المشردون التسول والنشل ويقاتلون مع عصابات أخرى، وقد أطلق عليهم الجنود الأمريكيون لقب “السليكيون”، وهي كلمة عامية تعني اللصوص الصغار.
وعندما تشارك ميلتون، البالغ من العمر 6 سنوات ، علبة حلوى، أعطاها له صديق والدته الأمريكي، مع الأولاد الآخرين أصبح “سيليكون” أيضا، وهنا شعر ميلتون أخيرا أنه ينتمي إلى جماعة ما.
ويقول: “كان كل الجنود السود يعطونني نقودا، أوراقا نقدية من الدولارات وليس مجرد نقود، ولقد غيرت تلك النقود حياتي تماما”.
وأصبحت والدة ميلتون عاملة جنس في نادٍ بالبلدة، تخرج ليلا للعمل حيث تترك ميلتون بمفرده في شقتهما مع تعليمات صارمة بعدم المغادرة، وكان يتجاهل تلك التعليمات بشكل روتيني.
في إحدى الليالي لم تعد والدة ميلتون من العمل كما هو متوقع، فقد داهمت الشرطة النادي وأرسلتها وجميع النساء الأخريات العاملات هناك إلى السجن لمدة أسبوعين.
وتخلص ميلتون وأصدقاؤه من تعليمات والدته فسرقوا المشروبات من الحانات وخاضوا مغامرات في جميع أنحاء المدينة.
وعندما عادت والدته سعت إلى التيقن من ضمان عدم ترك ميلتون بمفرده مرة أخرى، ففي كل مرة تتلقى فيها رياح مداهمة الشرطة، كانت تضع ميلتون في دار للأيتام لبضعة أسابيع حتى يكون بأمان.
ويتذكر ميلتون تعرضه للإيذاء العنصري من قبل الأطفال الآخرين، ومعظمهم من الكوريين، في دور الأيتام تلك كما كان في القرية أثناء نشأته. لكن هذه المرة لم يسمح بذلك وكان يرد.
ويقول: “كنت أضحك، نعم، قد أكون هذه الافتراءات العنصرية التي تتحدث عنها، لكنك يتيم، أما أنا فلدي أم تقول إنها ستعود في غضون أسبوعين، وتعود دائما في غضون أسبوعين”.
ولفترة من الوقت، استمر ذلك الروتين، ثم في صباح أحد الأيام، استقل ميلتون وأمه سيارة أجرة إلى دار أيتام مختلفة حيث بدا العديد من الأطفال مثل ميلتون.
كانت دارا للأيتام للأطفال المولودين لجنود أمريكيين وأمهات كوريات يُطلق عليه اسم منزل سانت فنسنت للأطفال الأمريكيين.
وأكدت له والدة ميلتون أنها ستعود في اليوم التالي ووعدته بتقديم هدية، فطلب لعبة قطار، لكن عندما عادت لم يكن هناك قطار، فقط عناق لم يكن يعلم أنه يعني الوداع.
ويقول: “قالت لي أريدك أن تكون قويا، كانت تلك آخر مرة رأيتها فيها”.
لم يمض وقت طويل بعد وصول ميلتون لأول مرة إلى ملجأ سانت فنسنت للأيتام حيث أخذه الكابتن والسيدة واشنطن إلى منزلهما في قاعدة عسكرية حيث قرر الهروب منها.
لم يبتعد، كان لا يزال صغيرا وكانت أسوار المجمع عالية، ووجده فريق البحث بعد ساعات نائما في ملعب للأطفال.
لكن الحادث هز عائلة واشنطن التي قررت بقاء ميلتون وجوزيف بشكل دائم. وقد تم تبني الولدين في عام 1977 وانتقلا في النهاية إلى أمريكا، وأصبحا جزءا من عائلة صاخبة ومحبة مكونة من 6 أطفال، وكانوا يركبون الدراجات ويمارسون الرياضة ويذهبون إلى المدرسة وكل تلك الأشياء العادية في الطفولة التي كان ميلتون يتوق إليها.
لكنه كان قلقا بشأن ما حل بأمه وكان يبكي حتى ينام، وكانت تطارده أحلام الخوض في حقول الأرز بحثا عنها. ويقول إنها كانت دائما “جزيرة يلوذ بها في عالم صعب للغاية”.
والآن وهو في الخمسينيات من عمره، وهو غير متأكد من عمره بالضبط، يعمل ميلتون كمصور فوتوغرافي في نيويورك.
لقد ظل دائما فضوليا بشأن عائلته البيولوجية، وفي السنوات الأخيرة بدأ في البحث عن روابط عبر مواقع الحمض النووي، وفي أبريل/نيسان من عام 2019 أسفرت جهوده عن التوصل لواحدة من أفراد الأسرة من جانب والدته، والتي أرادت التحدث إليه على الفور.
قال الصوت بلكنة كورية قوية: “مرحبا ، أنا أتصل من سياتل”.
فأجاب:” أنا ميلتون (ميلتون الصغير)”، مستخدما الاسم الذي لطالما كانت والدته تطلقه عليه.
فجاءه الرد: “أنا أختك تونغ هل تتذكرني؟”.
تذكر ميلتون لقاء تونغ، لقد كانت واحدة من أخواته الأكبر سنا، وقد التقيا عدة مرات في كوريا عندما كان ميلتون طفلا صغيرا، وعاشت تونغ مع جديها، الذين كانت والدة ميلتون تعيش بعيدة عنهما.
ويقول ميلتون إن حديثه إلى أخته غير الشقيقة كان “لحظة رائعة”.
ويضيف قائلا:”لقد كنت متحمسا حقا للاتصال بالماضي، والتحقق من ذكرياتي من خلالها”.
لم يكن ميلتون يتوقع بقاء والدته على قيد الحياة، لكن تونغ أخبرته أنها عاشت حياة طويلة وتوفيت قبل بضع سنوات فقط.
لقد جاءت والدته وشقيقاته إلى الولايات المتحدة في عام 1998، وعلى الرغم من علمهن أن ميلتون كان يعيش هناك أيضا، شعرت والدة ميلتون أنه ليس لها الحق في الاتصال به.
لكنها تركت تذكارا لميلتون مع تونغ عبارة عن قلادة من الذهب واليشم ليتذكرها بها.
ويقول: “إنها قطعة جميلة، وهي طريقة لأحمل أمي معي”.
ويواصل ميلتون البحث عن إجابات حول والده، ويعتقد أن والده جاء على الأرجح من لويزيانا، لكن لديه القليل من المعلومات عنه.
ويقول ميلتون: “أريد أن أعرف أي نوع من الرجال هو، إنه الحلقة المفقودة الوحيدة”.
على الرغم من الحزن الذي لا يزال يشعر به في بعض الأحيان، إلا أن ميلتون متأكد من أن والدته اتخذت القرار الصحيح بالتخلي عنه كل تلك السنوات الماضية.
ويقول: “لقد كانت تعلم أنه إذا كان لدي فرصة لأعيش في الولايات المتحدة، فسأبلي بلاء حسنا في ذلك، وأنا أحبها لهذا الأمر، بالطبع هناك فجوة في قلبي ستكون موجودة دائما، لكن مقارنة فوائد حياتي الحالية مقابل ما كان يمكن أن تكون عليه، ليس هناك جدل بهذا الشأن”.