- توم بايتمان
- بي بي سي – القدس
تلقى أهالي قرية البصة الفلسطينية، درسا في الوحشية الإمبراطورية عندما جاء الجنود البريطانيون بعد فجر أحد الأيام.
فتحت مدافع رشاشة، مثبتة على سيارات رولز رويس مدرعة، النار على القرية قبل أن يصل عناصر وحدة إلستر التابعة للجيش البريطاني حاملين مشاعل مشتعلة ليحرقوا المنازل ويسووها بالأرض.
تم اعتقال أهل القرية بينما قامت القوات في وقت لاحق بجمع الرجال في حافلة سارت فوق لغم أرضي، مما أدى إلى مقتل جميع من كانوا على متنها.
صوّر شرطي بريطاني المشهد بينما كانت النساء تحنو على رفات أمواتهن، قبل دفن الأشلاء المشوهة في حفرة.
كان ذلك في خريف عام 1938 وكانت القوات البريطانية تواجه تمردا في فلسطين التي كانت خاضعة آنذاك للانتداب البريطاني بعد عقدين من هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
كانت الغارة البريطانية على البصة جزءا من سياسة معلنة من قبل القائد المحلي للعمل “العقابي” ضد قرى فلسطينية بأكملها، وذلك بعد أن قتلت قنبلة زرعت على جانب الطريق أربعة جنود بريطانيين، بغض النظر عن وجود دليل على المسؤول عن العملية.
تم الكشف عن هذه الفظائع بعد عقود من انسحاب بريطانيا من فلسطين عبر روايات الجنود والقرويين. وهي الآن تشكل جزءا من ملف يُعرض على الحكومة البريطانية للمطالبة بالمحاسبة من أجل الفلسطينيين الذين تعرضوا لجرائم حرب من قبل القوات البريطانية.
تطلب العريضة، التي تضم ملف أدلة من 300 صفحة، إقرارا رسميا واعتذارا عن الانتهاكات خلال فترة الحكم البريطاني لفلسطين، التي امتدت منذ عام 1917 حتى عام ،1948 وانتهت مع انسحاب بريطانيا من فلسطين وما أعقبه من إعلان قيام دولة إسرائيل.
تتضمن مراجعة البي بي سي للأدلة التاريخية المتضمنة تفاصيل القتل التعسفي والتعذيب واستخدام الدروع البشرية واللجوء إلى هدم المنازل كعقاب جماعي. أغلب هذه الممارسات جاءت في إطار مبادئ توجيهية للسياسة الرسمية للقوات البريطانية في ذلك الوقت أو بموافقة كبار الضباط.
يقول عيد حداد، والذي كان والداه من الناجين من مجزرة البصة، في حديث لبي بي سي “أردت أن يعرف الناس أن والديّ، الذين كانا في سن المراهقة وقتها، عانيا. علينا الآن أن نتحدث بالنيابة عن من ماتوا”.
وقالت وزارة الدفاع البريطانية في بيان إنها كانت على علم بادعاءات تاريخية ضد أفراد القوات المسلحة خلال تلك الفترة، وإن أي دليل يتم تقديمه سيتم إجراء “مراجعة شاملة” له.
من المرجح أن يؤدي طلب الاعتذار إلى إعادة فتح النقاش حول قضية المساءلة عن جرائم الحقبة الاستعمارية، كما أنه لن يسلم من أن ينظر إليه من منظور الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
فكل من الفلسطينيين والإسرائيليين ينظرون إلى الإرث التاريخي البريطاني انطلاقا من مواقف مختلفة، رغم أنه كان لكل منهما -خلال فترات مختلفة- مواقف معارضة لأعمال عدائية وانتهاكات من قبل البريطانيين بجانب عدم التزام لندن بوعود قطعتها لكل فريق.
العريضة قدمها قبل منيب المصري، 88 عاما، وهو رجل أعمال فلسطيني معروف وسياسي سابق، أصيب برصاص القوات البريطانية عندما كان صبيا في عام 1944.
وقال المصري لبي بي سي في منزله في نابلس بالضفة الغربية المحتلة “(الدور البريطاني) أثر عليّ كثيرا لأنني رأيت كيف يتعرض الناس للانتهاك … ليس لدينا أي حماية على الإطلاق ولا أحد يدافع عنا”.
يشارك محاميان دوليان كبيران في الأمر، فقد طلب منهما المصري إجراء مراجعة مستقلة للأدلة. وهما لويس مورينو أوكامبو، المدعي العام السابق في المحكمة الجنائية الدولية، والمحامي البريطاني بن إيمرسون كاي سي، المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب.
يقول إيمرسون إن الفريق القانوني قد اكتشف أدلة على “جرائم مروعة ارتكبتها عناصر من قوات الانتداب البريطاني بشكل منهجي ضد السكان الفلسطينيين”.
وقال لبي بي سي “إن بعض (الجرائم) على درجة كبيرة من الخطورة، حتى أنها كانت لتعتبر في ذلك الحين انتهاكات للقانون الدولي العرفي”.
أقفاص الأسلاك الشائكة
ومن المقرر أن يقدّم المصري الملف إلى الحكومة البريطانية في لندن في وقت لاحق من هذا العام.
ويشير التماسه إلى فظائع أخرى وقعت في صيف عام 1939، عندما أجرى جنود من فوج “بلاك ووتش” عملية تفتيش للأسلحة في قرية حلحول الواقعة في الضفة الغربية المحتلة.
وصفت الروايات المتعددة من كل من السكان والجنود البريطانيين بالتفصيل كيف تم مداهمة المنازل واعتقال القرويين تحت تهديد السلاح، قبل أن يتم جمع ما يصل إلى 150 رجلا في مكان خلف مسجد وإجبار العديد منهم على الإقامة في أقفاص من الأسلاك الشائكة.
يقول محمد أبو ريان، 88 عاما، الذي كان صبيا عندما اقتحم الجنود البريطانيون منزله واحتلوا سطح أحد المنازل “هؤلاء ليسوا ثوارا بل مزارعين. كان الثوار يختبئون في الجبال”.
كان يعرف الكثير من الناجين من أقفاص حلحول. خلال أسبوعين من الأسر في الحر الشديد، توفي حوالى 13 شخصا بسبب الجفاف، بينما أصيب شخص واحد على الأقل برصاصة أثناء محاولته الهرب.
وقال أبو ريان لبي بي سي في منزله في حلحول “بدأوا في حفر التراب لمحاولة أكل الجذور. وضعوا التربة المبللة على جلدهم فقط في محاولة لتبرد”.
وكتب مفوض المقاطعة آنذاك إدوارد كيث روتش في رسالة خاصة “بعد 48 ساعة من العلاج، كان معظم الرجال مرضى للغاية وتوفي 11 من كبار السن والضعفاء. وقد تلقيت تعليمات بعدم فتح تحقيق مدني”.
كشفت تصريحات غير عادية قدّمها المقدم اللورد دوغلاس جوردون، وهو قائد سابق لفوج “بلاك ووتش”، عن وجود “قفص جيد” به خيام للمأوى ومياه غير محدودة، بجوار “القفص السيئ (حيث) لم يكن لديهم مأوى، لقد تم تقنين (منح الماء) لهم، على ما أعتقد، نصف لتر من الماء يوميا”.
تزايد التوترات
بدأت سيطرة بريطانيا على فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى عندما طردت قواتها الإمبراطورية القوات التركية العثمانية. في عام 1917، تعهد وزير الخارجية آرثر بلفور للحركة الصهيونية بتأسيس وطن قومي لليهود فيما أصبح يعرف باسم وعد بلفور.
سمح سلطات الانتداب البريطاني لفلسطين بارتفاع مستويات الهجرة اليهودية والاستحواذ على الأراضي، مما أدى إلى تأجيج التوترات المتزايدة مع العرب الفلسطينيين والتي كثيرا ما تحولت إلى أعمال عنف.
شهد الوجود البريطاني الذي استمر ثلاثة عقود سلسلة من الانتكاسات الفوضوية في السياسة، كما عانت القوات البريطانية لاحتواء العنف المتصاعد، سواء بين الفلسطينيين واليهود أو بين جماعات مسلحة من المعسكرين والقوات البريطانية.
في عام 1936 اندلع تمرد فلسطيني، عٌرف باسم الثورة العربية في فلسطين، لتغرق الحكومة البريطانية فلسطين الجنود.
كانت الفظائع التي ارتكبتها بريطانيا في فلسطين “عنيفة” و”استثنائية”، وفقا للمؤرخ العسكري البروفيسور ماثيو هيوز، الذي قال إن تكتيكاتها لم تصل بشكل روتيني إلى مستويات الوحشية التي شهدتها بعض المستعمرات الأخرى.
وبدلا من ذلك، كما يقول، أدخلت بريطانيا نظام “التهدئة اليومية” الذي كان “أكثر جوهرية وتراكمية واستنزافا في إنهاك الفلسطينيين”، مستشهدا بإجراءات تشمل القيود على الحركة وحظر التجول ومصادرة الممتلكات أو المحاصيل كإجراءات عقابية، بجانب الاعتقال واستخدام السخرة لبناء الطرق والقواعد العسكرية.
ويضيف هيوز “أصبحت البلاد بأكملها أشبه بالسجن”.
ويوضح أيضا أن المبادئ التوجيهية العسكرية لبريطانيا سمحت للقوات بتنفيذ “عقوبات جماعية”، غالبا ما تنطوي على هدم منازل، بالإضافة إلى “الانتقام” وإطلاق النار على الناس، بينما كان من الشائع أيضا إطلاق النار على المشتبه بهم الذين كانوا يفرون.
“ربط وضرب”
يحتفظ أرشيف متحف الحروب الامبراطورية في لندن بذكريات العديد من الجنود وضباط الشرطة البريطانيين في فلسطين .
وتفصّل بعض سجلات التاريخ الشفوي روايات عن الغارات “العقابية” واستخدام الدروع البشرية والتعذيب.
قال فريد هوبروك، ضابط في فوج مانشستر، إنهم كانوا يذهبون إلى القرى و”يدمرون بعض المنازل، أشياء من هذا القبيل” بينما يمكن للسكان المشاهدة فقط.
وصف جندي آخر من كتيبة مانشستر، آرثر لين، كيف كانوا “ينزلون إلى سجن عكا ويأخذون خمسة متمردين، أو ثلاثة متمردين، وأنت تجلسهم على غطاء محرك السيارة، حتى يتمكن الرجل الموجود في أعلى التل من رؤية رجل عربي في الشاحنة حتى لا يفجرها … إذا كان (المتمرد) سيئ الحظ، فإن الشاحنة القادمة من الخلف ستصدمه”.
كما تحدث عن ممارسة يُجبر الفلسطينيون المشتبه بهم فيها على الركض بين صفين من الجنود البريطانيين مع “ربطهم بالأحزمة وضربهم” بأعقاب البنادق والفؤوس. وقال “كل من ماتوا، وضعوا في عربة اللحوم وألقوا في إحدى القرى بالخارج”.
شهدت فترة الانتداب البريطاني في نهاية المطاف استخدام “أساليب سيئة للسيطرة على كل من العرب واليهود”، كما يقول المؤرخ الإسرائيلي توم سغيف، مؤلف كتاب “فلسطين واحدة كاملة”.
وقال لبي بي سي “أدرك البريطانيون في وقت مبكر من عام 1937 أنه لا يمكن أن ينجح الأمر، وأن عليهم الخروج من هنا حقا … وأن الصراع بين اليهود والعرب ليس له حل حقا”.
يقول سغيف إنه بينما يظل العديد من الإسرائيليين ممتنين لوعد بلفور إلا إنه بحلول الأربعينيات من القرن الماضي، ازداد التوتر بين الصهاينة والبريطانيين “بشكل سيئ للغاية”، بعدما “شعر بعض اليهود أن البريطانيين (كانوا) يخونونهم”.
وشهدت هذه الفترة إعادة بريطانيا لسفن الناجين من المحرقة النازية الذين كانوا يحاولون الوصول إلى فلسطين.
“لقد كانوا حكاما أقوياء للغاية وكل ما أرادوه هو: اصمت، لا تزعجنا بمشاكلك، فنحن لا نهتم حقا بمن هو على صواب ومن على خطأ. ولذا فقد طبقوا أساليب عمل سيئة للغاية”، يقول سيغف.
إلا أن منيب المصري يذهب إلى القول إن الصراع الذي أعقب ذلك ترك الفلسطينيين معرضين للخطر تماما، حيث تبنت دولة إسرائيل المنشأة حديثا بعض سلطات الطوارئ التي تركها البريطانيون.
يقول “يجب على بريطانيا أن ترى السبل والوسائل للتعويض … (لتكون) شجاعة وتقول: آسفة، لقد فعلت هذا”.