- فيرناندو دوارتي
- بي بي سي – الخدمة العالمية
يعد جسر البوابة الذهبية في الولايات المتحدة الأمريكية (ذا غولدن غيت بريدج)، أحد أشهر الأبنية التي صممها وصنعها الإنسان في العالم. ولكن منذ افتتاحه عام 1937، أصبح هذا الهيكل المعماري، الذي يبلغ طوله 2.7 كيلومتر، والواقع في مدينة سان فرانسيسكو، “مقصدا معروفا للانتحار”.
الخبر الجيد هو أن السمعة السيئة للجسر قد تصبح قريبا شيئا من الماضي، بفضل تركيب شبكات أمان.
وقال كثيرون لبي بي سي إن شبكات الأمان تلك ستغير قواعد اللعبة، ومنهم كيفن هاينز، وهو أحد الناجين، والذي قال: “سيصبح الجسر أقوى منارة في العالم لمنع الانتحار”.
ومن الإنصاف القول إن كيفين كرس حياته، بعد نجاته، لهذا الجسر. ففي عام 2000، نجا كيفين بأعجوبة بعد أن قفز من ارتفاع 75 مترا في المياه الباردة للمحيط الهادئ بعد محاولته الانتحار من على الجسر.
وبعد مرور 85 عاما على إنشاء الجسر، أنهى أكثر من 1800 شخص حياتهم بهذه الطريقة، وفقا للأرقام الواردة من هيئة الجسر.
وبعد تعافيه من إصاباته الخطيرة، عثر في نفسه على مناضل هدفه منع الانتحار من خلال جولات يقوم بها في الولايات المتحدة وفي دول أخرى لنشر رسالة أمل. ويعتبر الرجل البالغ من العمر 41 عاما أيضا من أشد المؤيدين لحملة تثبيت شبكات أمان على الجسر.
هل التأخير يتسبب بخسارة الأرواح؟
حصلت خطط لإنشاء شبكات الأمان على الموافقة منذ عام 2008، ولكن البناء لم يبدأ إلا بعد 10 سنوات من ذلك التاريخ. وتأخر العمل بسبب سلسلة من القضايا بما فيها التكاليف التي تضخّمت إلى حد كبير بسبب جائحة كوفيد-19 وعدد من المسائل الإدارية.
ومن المقرر الآن أن تجهز الشبكات بحلول شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2023.
وفي بيان، قال باولو كوسوليتش شوارتز، مدير الشؤون العامة في الجسر: “استمر بناء الحاجز المانع للانتحار طيلة فترة الوباء، لكن المقاول لم يعمل بالسرعة التي كنّا نتمناها. نحن نعمل الآن مع المقاول لحل المشكلة وتسريع البناء”.
وفي حديث له مع بي بي سي قبل اليوم العالمي للصحة النفسيّة المصادف 10 أكتوبر/تشرين الأول هذا العام، وصف هاينز التأخير بأنه “محزن”، لكنه يقول إنه يفضل التركيز على حقيقة أن هذا الحاجز أصبح حقيقة واقعة بعد كان موضع نقاش في الخمسينيات.
ويقول: “إنه لأمر محزن أن الأمر استغرق وقتا طويلا، لكنني سعيد لأنه سينجز. أتطلع إلى النتيجة الإيجابية التي سنحصل عليها عند الانتهاء من وضع الشبكات”.
وحاليا لا يوجد ما يمنع الانتحار إلا سرعة بديهة وتحرّك ضباط إنفاذ القانون ومجموعات المتطوعين.
وكيفن بريجز هو ضابط متقاعد في دورية الطرق السريعة في كاليفورنيا، ويُنسب له الفضل في ثني نحو 200 شخص من القفز من على جسر البوابة الذهبية، ويعتقد أن شبكات الأمان ستغير طريقة منع الانتحار.
وقال بريجز لبي بي سي: “إنه لمن المحبط جدا أن نرى مدى بطء هذه العملية. في كل عام يقفز أكثر من 20 شخصا من على الجسر، لكن هذه الأعداد ستنخفض إلى الصفر عند تركيب شباك الأمان”.
أرقام مظلمة
أدى العمل الجماعي لكل من دوريات إنفاذ القانون ومجموعات متطوعين مثل بريدج ووتش أنجلز (Bridgewatch Angels)، وهي شبكة من المتطوعين الذين ينتشرون على الجسر في مناسبات مثل عيد الحب وعيد الميلاد، إلى تجنب حدوث زيادة كبيرة في عدد الوفيات: ففي عام 2021 وحده، منع 198 شخصا من القفز.
وتقول السلطات إن 25 شخصا قفزوا بالفعل، ولكن 21 جثة فقط تم انتشالها. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 98 في المئة ممن يقفزون عند جسر البوابة الذهبية لا ينجون.
وحاليا لا يوجد سوى حواجز منخفضة قرب رصيف المشاة، ولكن حتى شبكات الأمان لن تمنع إصابة الأشخاص إن قفزوا: إذ ستكون الشباك مصنوعة من الفولاذ وستوضع على ارتفاع ستة أمتار تحت رصيف الجسر.
قاتل عالمي لا يرحم
الانتحار قاتل منتشر في جميع أنحاء العالم، وتقدر منظمة الصحة العالمية العدد عالميا بأكثر من 700,000 وفاة سنويا. في حين تقول المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) إن نحو 46,000 شخص انتحروا في الولايات المتحدة عام 2020 (وهذا آخر عام تتوفر عنه إحصاءات).
ويعد الانتحار الآن ثاني أكبر مسبب للوفاة بين الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 10-14 و25-34 عاما.
هل ستعمل شبكات الأمان فعلا على منع الناس من محاولة القفز؟
يشير مؤيدو هذه الفكرة، ومن بينهم ذوو الأشخاص المنتحرين من أعلى الجسر، إلى أن العديد من الأبنية الشهيرة في أنحاء العالم، مثل برج إيفل، لديها حواجز وتبلّغ عن عدد أقل بكثير من محاولات الانتحار والوفيات.
ويقول بول مولر، رئيس صندوق بريدج ريل، وهي منظمة غير حكومية مقرها سان فرانسيسكو تأسست للضغط من أجل زيادة الحماية عند جسر البوابة الذهبية، عبر البريد الإلكتروني: “إن جسر البوابة الذهبية تتبع نفس مفاهيم التصميم المثبتة في (معلم شهير) في مدينة برن (السويسرية)، لذلك نتوقع أن تنتهي الوفيات عند الانتهاء من نصب الحاجز أو أن تصبح قريبة من الصفر”.
ويعتقد منتقدو شبكات الأمان أنها ستجعل الناس يبحثون فقط عن أماكن أخرى لمحاولة الانتحار.
ومن الأمثلة التي يشيرون إليها غالبا جسر في تورنتو الكنديّة؛ ففي ورقة بحثية صدرت عام 2010، وجد الباحثون أنه بفضل حاجز نصب لمنع الانتحار في يونيو/حزيران عام 2003 انخفض عدد الوفيات من تسعة سنويا إلى ما يقارب الصفر، ولكن في الوقت ذاته ازدادت حالات الوفيات بسبب الانتحار في الجسور المحلية الأخرى.
لكن النقيض جاء في دراسة ركزت على الأشخاص الذين أثنوا أو منعوا من القفز من على جسر البوابة الذهبية، إذ نشر ريتشارد سايدن، الذي كان حينها طبيبا نفسيا في جامعة كاليفورنيا، دراسة تتبعت حياة الأشخاص الذين منعوا من القفز من على الجسر بين عامي 1937 و 1971. ووجد سايدن أنه من بين 515 شخصا، انتحر 25 فقط في وقت لاحق.
وقالت داينا ويتمير، العضوة في مجلس إدارة مؤسسة بريدج ريل، والتي فقدت ابنها ماثيو عند جسر البوابة الذهبية، لبي بي سي: “أردنا كعائلات التعبير عن آرائنا ومشاركة أحزاننا علنا، لأننا نريد جعل الناس يفهمون أنه لا يتعين على الناس أن يموتوا هكذا. لا نريد أن تتحمل أسرة أخرى ما مررنا به – خسارة تبقى معنا إلى الأبد. ونحن نعلم أن شبكات الأمان ستحدث فرقا”.
“أصوات في رأسي“
في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول عام 2000، سافر كيفن هاينز بالحافلة من وسط مدينة سان فرانسيسكو إلى جسر البوابة الذهبية في ذروة صراعه مع الاضطراب ثنائي القطب ( Bipolar Disorder)، وذلك بعد أن سمع أصواتا في رأسه “تأمره بالموت”. وعاهد نفسه أنه إن سأله شخص ما “لكنت أخبرتهم بكل شيء وطلبت منهم مساعدتي”.
ولكن كان الشخص الوحيد الذي اقترب من هاينز كان سائحة طلبت منه التقاط صورة لها، وكان بعمر التاسعة عشرة.
وقفز هاينز من على الحاجز المنخفض، ومثله مثل الناجين القلائل الذين تحدثوا علنا، عبّر عن أسفه لقراره القفز فور سقوطه في مياه المحيط.
اليوم يظن هاينز أن شبكات الأمان “كانت ستوقفني إن قفزت، لكنني أعتقد أيضا أنني ما كنت لأحاول (القفز) لو كانت موجودة”.
ويضيف: “أعتقد أنه بمجرد أن يدرك الناس أنهم لن يستطيعوا بعد الآن قتل أنفسهم بمجرد القفز من جسر البوابة الذهبية، فإن محاولات الانتحار ستتوقف”.
تُعرف تدابير مثل الحواجز وشبكات الأمان في الأدبيات المناهضة للانتحار بأنها إزالة الوسائل؛ وتتسع هذه الوسائل لتشمل أيضا وضع سياسات تقيّد مثلا حيازة الأسلحة النارية أو بيع الأدوية والسموم.
وفي هذه الأثناء، تراود هاينز أحلام يقظة عن زيارة أخرى لجسر البوابة الذهبية. وكان قد قام بعدة زيارات فعلا، أولها في الذكرى الأولى لقفزته من على الجسر. لكنه يأمل أن يبدو الجسر في هيئة مختلفة بعض الشيء في زيارته القادمة.
ويقول: “ليس لدي مشكلة مع جسر البوابة الذهبية ذاته. إنها تحفة فنية لكنها ليست آمنة. لكننا نعمل على جعلها آمنة، وهذا أكثر شيء مذهل”.