التخطي إلى المحتوى

تفاقم «داء» الإنكار وتعظيم الذات لدى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى مرحلة تفوق الوصف. ففي لقاءين عقدهما في اليوم نفسه مع هيئات أصحاب العمل ومجلس إدارة جمعية المصارف، كرّر حرفياً: «الليرة بخير، والودائع بخير، طولو بالكن شوي». كلام ملهم جداً من الرجل الذي حفّز موجات التضخّم السريع والحاد لمدّة ثلاث سنوات متتالية من أجل إطفاء خسائر النظام المالي الذي أداره لمدّة 28 عاماً متواصلة

يبدو أن مرض الإنكار بلغ مرحلة متقدّمة مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فمنذ فترة وجيزة، التقى سلامة على حدة، بممثلي هيئات أصحاب العمل وممثلي جمعية أصحاب المصارف، في اليوم نفسه، وقال لهم بكثير من الجديّة كلاماً «عجيباً» ينطوي على الكثير من «تعظيم الذات» وإظهار عقد الطفولة. فقد تفاخر أمام الجميع بأنه الرجل الذي يحرّك وزير المال، وأنه لا يزال يتحكّم بكل المفاصل المتعلقة بدورة الحياة الاقتصادية مهما كان شكلها ونوعها.

بحسب مشاركين في اللقاءين، كان النقاش متمحوراً حول نتائج القرار القاضي بتعديل سعر الصرف إلى 15 ألف ليرة، وحول علاقة لبنان مع صندوق النقد الدولي ومدى الحاجة إليه، والحلول التي يقترحها لمعالجة توزيع الخسائر، وعن أسعار الليرة والدولار بشقيه؛ البدعة المسماة الدولار المحلي أو «لولار»، والدولار الحقيقي الذي يُطلق عليه اسم دولار السوق الحرّة. والجميع كان يريد الاستفسار عن قرار تعديل سعر الصرف إلى 15 ألف ليرة، وكان همّ أصحاب المصارف التركيز على مصير مؤسساتهم في ضوء ما سينتج من هذا القرار، بينما كان همّ الهيئات معرفة تداعيات القرار على ميزانيات مؤسساتهم وعلى القدرة الشرائية وحجم مبيعاتهم والضرائب التي ستترتب عليهم وأرباحهم. وردّ سلامة على المستفسرين بالآتي: «صحيح أن قرار تعديل سعر الصرف إلى 15 ألف ليرة سيؤدي إلى إفلاس كل المصارف، إنما سأرى من يجب أن أساعده للخروج من حالة الإفلاس هذه». وبدأ يتفاخر أمامهم بأنه هو من أوعز إلى وزير المال يوسف الخليل بإصدار بيان يقضي بتعديل سعر الصرف إلى 15000 ليرة مقابل الدولار الواحد. بهذا المعنى، بدا سلامة هو من أعدّ البيان ودسّ فيه حيثيات لتبريره متّصلة بمواد في قانون النقد والتسليف (المادتان 75 و83) تتحدث عن خسائر وأرباح العمليات التي تنتج من تدخلات مصرف لبنان بشكل استثنائي لبيع العملات الأجنبية وشرائها من الجمهور وتغطيتها من المال العام على شكل سندات خزينة.

لكنّ سلامة لم يكتف بهذا القدر، بل استرسل في الحديث ساخراً من العلاقة المحتملة مع صندوق النقد الدولي من خلال الإشارة إلى أن الصندوق لن يقدّم أكثر من 3 مليارات دولار تُسدّد خلال أربع سنوات، وأنه بإمكان الصندوق أن يوقف السداد كل 3 أشهر بينما «نحن ننفق على الترويقة 200 مليون دولار يومياً». كما تحدّث عن رؤيته لمعالجة الأزمة التي تختلف عن رؤية الهيئات أيضاً، مشيراً إلى «أننا نعمل على الحلّ ولقد أنجزنا إعادة الهيكلة وأرسلنا المشروع إلى الحكومة ونحن في انتظار جوابها عليه».
وفي سياق الحديث، كان الحاضرون يشيرون إلى أسعار الصرف المتعددة في السوق وبلوغها مستويات غير مسبوقة، ولا سيما لجهة سعر الدولار المحلي «لولار» وسعر الدولار في السوق الحرّة، لكنّ سلامة باغت الجميع بجواب لم يكن يخطر في بال أحد: «الودائع بخير، الليرة بخير، طولو بالكن شوي».

الحاكم يسخر من صندوق النقد: ننفق على الترويقة 200 مليون دولار يومياً!

عملياً، ما أراده سلامة هو أن يظهر لزائريه أنه متحكّم بكل ما يحصل؛ فهو يتحكّم بقرار وزير المال يوسف الخليل. وأراد أن يظهر أيضاً أنه المعنيّ مباشرة وحصراً في إدارة الدورة الاقتصادية بكل انكماشها وركودها وتضخم الأسعار فيها. بدا كأنه يصرّ على إحراج وزير المال رغم الإحراج الذي أصابه عندما اعتلى منصّة مجلس النواب وأرغمه رئيس المجلس على النزول قبل إلقاء كلمته المخصّصة للردّ على أسئلة النواب بخصوص الموازنة وأسعار الصرف والتوجهات التي تضمّنتها.

بشكل أو بآخر، استعرض سلامة قوّة نفوذه التي لا حدود لها. فالآخرون، أي قيادات الحكم الذين ينوب عنهم في إدارة البلد، هم جاهلون اقتصادياً ومالياً ونقدياً، ويرتكزون عليه في كل ما يسعون لفعله. هم لطالما كانوا كذلك منذ مطلع التسعينيات إلى اليوم. بالنسبة إليهم هو المنفذ المالي والاقتصادي باسمهم، وهو مصدر التوزيع الأساسي للمغانم والمنافع عليهم، وهو الناظم للعلاقات المالية في ما بينهم، سواء كانت على شكل توزيعات طائفية أو مناطقية أو سياسية. كان هو الرجل الذي لم يقل «لا» لأحد، واستمرّ إلى اليوم بالشكل نفسه. هو كذلك، لأن الآخرين لديهم ملاعب سياسية وحدود طائفية ومناطقية، إنما ليس لدى رياض أي حدود بهذا المعنى. فهو يقرّر من يربح ومن يخسر.
وهذا بالفعل ما يحصل الآن. فالأداة التي يستخدمها رياض سلامة لإطفاء الخسائر، هي واحدة من أكثر الضرائب خبثاً لأنها تصيب المجتمع في مدّخراته، وتنقل الثروة من يد إلى أخرى. خسائر المجتمع هذه لم تحدث اليوم، إنما بدأت تتراكم منذ نحو ثلاثة عقود، وسلامة أدار العمليات المرتبطة بهذه الخسائر من خلال دعم الليرة، ومن خلال تسهيل عملية التوزيع عبر النظام المصرفي لاستقطاب الثروة من الخارج والإغراء بفوائد مرتفعة ثم ليصبّ معظمها في جيوب أصحاب الثروة وأصحاب الدخل الأعلى في لبنان. من أبرز الدلالات على ذلك، هي شرائح الحسابات المصرفية إذ كان 0.05% من السكّان يستأثرون بأكثر من 34 مليار دولار (45%) من الودائع المصرفية.
لكنّ اللافت أن أصحاب الثروة وأصحاب الدخل الأعلى هم الذين يعترضون اليوم على سياسات سلامة، إذ إنهم يفهمون منه أن إعادة إشراكهم في بنية النموذج الذي يعمل هو على إحيائه، تستوجب عملية «تنظيف» قد تطيح ببعضهم. لذا هم قلقون، لكنهم لم يتوقعوا أن الحاكم يعيش الإنكار إلى درجة تكرار عبارة «الليرة بخير» ولم يخطر في بالهم أبداً أنه سيقول إن «الودائع بخير» أيضاً بعد ثلاث سنوات على أزمة طحنت المدّخرات والمداخيل وقضت على الأخضر واليابس.