التخطي إلى المحتوى

      جلس متكئا على عصاه وبالكاد يستطيع الجلوس على (عتبة) مستظلاً بسور القنصلية من حرارة شمس المدينة الحارقة، يشاهد مع الآخرين مشهد ذاك الثمانيني الذي لفت الحضور، وهو يفترش الأرض محتميا بظل سيارة الشرطة، بعد أن أعياه الجلوس على كرسيه المتحرك وهو ضمن قائمة المنتظرين. حسين، الاسم الحركي للستيني صاحب العصا، قال مجيبا بألم على سؤالنا عن وضعه ضمن قائمة المرضى في انتظار فيزا دخول مصر ” ديل مافيا يا بتي … اسمي في القائمة تجاوز الرقم 200 ، ومع ذلك أأتي ثلاث مرات في الأسبوع وهي الأيام المخصصة للرجال أملا في فراغ بعض الخانات لمن لجأوا للتأشيرة عبر السماسرة، فمن المفترض خضوعي لعملية تجاوزت موعدها بتسعة أشهر … وهنا عدد الجوازات المستلمة في اليوم تخضع لمزاج موظف القنصلية، أحيانا 10 وأحيانا 6 وأخرى يمتنعون عن الاستلام (لزعلة) بسبب التزاحم ..” .

العشرات يتكالبون على مبنى القنصلية المصرية بحي المطار في مدينة بورتسودان، يصطفون بالعشرات في صفوف بمختلف الفئات تحت هجير الشمس وهناك من تجمعوا للتسجيل, وآخرون يتلقفون ظلال المبان المجاورة في ترقب أملاً في فرصة ما. معظمهم أن لم يكن جميعهم آتون من الخرطوم، الفارين من جحيم الحرب بحثا عن الاستقرار أو التعليم أو العلاج وهي الفئة الأكثر حساسية . قوائم الانتظار في تجدد دائم من قبل بعض المتطوعين، اضافات للمئات كل يوم، القائمة الخاصة بالرجال قاربت الأربعة آلاف، فيما تجاوزت قائمة النساء الثلاثة آلاف، في الوقت الذي خصصت قائمتين آخرتين للمرضى والطلاب تجاوزت كل منهما الثلاثمائة، وذلك حتى منتصف سبتمبر عقب 5 اشهر من الإقتتال. إحدى الطالبات قالت ” اكتملت إجراءات قبولي يإحدى الجامعات المصرية، سجلنا قبل حوالي شهر وننتظر تقديم جوازاتنا ولا أدري كم سيتطلب الأمر من وقت والجامعات ستبدأ الدراسة نهاية سبتمبر الحالي لقدامى الطلاب ، ومنتصف اكتوبر للطلاب الجدد ” .

طول قوائم الإنتظار التي ستتطلب أشهر، يفتح الطريق ممهداً لفرص سماسرة الفيزا المتاجرين بسؤ أوضاع المنتظرين. خاصة وسط المعاناة من استغلال ظروف الحرب التي تبعها إرتفاع جنوني ومضاعف لأسعار ايجارات المساكن والتي تراوحت بين نصف المليار والمليار ونصف، أمام عجز الوافدين بعد فقدانهم كل ما يملكون في الخرطوم، أما بسبب القصف أو أعمال النهب . وبحسب مقارنة الإيجارات مع ما قبل الحرب فقد ارتفعت بمعدل 5 أضعاف ما كانت عليه. حسين يقول ” معظم المرضى يلجأون إلى شراء الفيزا بدلا عن الإنتظار، بالرغم من السعر الجنوني الذي تجاوز المليار، فبالحساب هي ذات التكلفة التي تبذل للإيجار والمعيشة المرتفعة، أمام تدهور حالات المرضى … اضررت لبيع منزل في الخرطوم قبيل الحرب لإجراء عملية جراحية هي الخامسة في مسيرة العلاج، الآن تمضي الأشهر وانا بين قيام الحرب والنزوح الى بورتسودان وإنتظار التأشيرة … لم يتبق لي غير تحضير كفني والإنتظار ..) . عوض الكريم حدثنا عن وضعه ” أعاني من أمراض مزمنة أخطرها ورم في الرأس يتطلب إجراء ونين مغنطيسي وحاليا غير موجود في بورتسودان، بدأت أعاني من دوخة وضعف عام .. اليوم نادوا باسمي ضمن 20 من المفترض تسليم جوازاتهم للقنصلية .. لكن الموظف اكتفى بثمانية جوازات فقط وصرف البقية .. ليتجدد مشوار انتظارنا منذ السادسة صباحا لثلاثة أيام في الاسبوع ليوم بعد بعد غد… ” . بعد إفادته ذهب يجرجر رجليه المتعبتين عله يجد مكاناً بين من عرفوا مصيرهم ذلك اليوم، متجرعاً كوبين من عصير الليمون، المكان حول مبنى القنصلية أصبح سوقاً رائجاً لبائعات الشاي وبائعي المياه والمشروبات بأنواعها، حتى ماكينات طباعة وتصوير المستندات وجدت طريقها بالقرب من مبنى القنصليه، تحت مظلة صيغت على عجل، حيث يبدو أن المكان تزامن تواجده مع تزاحم الوافدين. 

لفت انتباهنا جلوسه أرضاً وسط صف الإنتظار لتسليم الجوازات، مستندا على سياج المبنى وقد اعيته حرارة الشمس، قال حامد ” إبني يعاني من انفصال الشبكية ، اجرينا عملية في الخرطوم ولم تنجح والآن بدأ نظره في التلاشي والتدهور يوم بعد آخر وأتمنى أن يجد فرصة اليوم ضمن المستلمة جوازاتهم ” . ولكن امنيات الأب ضاعت سداً ولم يكن إبنه ذو الخمسة عشرة عاما ضمن من تم استلام جوازه في ذلك اليوم ليعود خائبا مثقلاً تحت هجير الشمس، بهموم فقدان إبنه لبصره. عيسى الذى شاركنا الحديث ويأمل إكمال علاج ظهره ويخشى أن يقعده تدهور حالته المرضية ولا يقوى على تحمل تكاليف فيزا السماسرة ، قال ” وجدت معلناً في إحدى القروبات للدخول الى مصر عن طريق التهريب مقابل 200 ألف جنيه ، تواصلت معه وأخبرني أنه سيوصلنا حتى اسوان” . ولكن ضآلت المبلغ بالمقارنة مع المبالغ المعروفة للتهريب جعلته يتراجع أمام تحذيرات البعض له من المحتالين الذين كثروا في هذا المجال.

مشاهد آلام المرضى وذويهم وقلق الطلاب وترقب المتابعين للقوائم وإعياء يلف الجميع تحت حرارة شمس المدينة، وإحباط هنا وأمل هناك، تسيطر على المكان في زمان يعز فيه توقع ما يمكن رسمه حتى لمستقبل قريب .